اخبار

الأحد، ٢٧ فبراير ٢٠١١

عن الثورة.. والثوَّار الجدد!


عندما قامت ثورة يوليو وتمكن الضباط الأحرار من فرض سيطرتهم على البلاد وخلع الملك فاروق من عرشه، دارت الأيام لينقشع غبار الثورة عن فساد أشد، وظلم أفدح، وعندها قالت الراقصة تحية كاريوكا قولتها الشهيرة "كان لدينا فاروق فأصبح عندنا فواريق".. واليوم بعد أن نجحت ثورة 25 يناير الشريفة المجيدة ورأيت ما حدث خلالها، وجدت جملة واحدة تنطبق على ما يحدث وهى: "كان عندنا مبارك، فأصبح عندنا مباركون"!!

بداية دعونا نتفق على سعادتنا وتأييدنا وفخرنا لقيام هذه الثورة المجيدة التى أعادت لمصر ما ضاع منها خلال سنوات قبعت خلالها تحت حكم مستبد فاسد لا يستمع إلا لصوته ولا يؤمن إلا بمعتنقيه، ودعونا فى البداية أيضا ننحنى احتراما وإجلالا لهؤلاء الشهداء الأطهار الذين روت دماءهم أرض مصر لتنبت عهدا جديدا "مأمولا" من الحرية والكرامة.. ولكن مع كل هذه التضحيات والمميزات، كان لابد أن ألقى الضوء على بعض ما آلمنى فى هذه الثورة وما تلاها من أحداث ومواقف من (بعض) الشباب الثائر.

كان أول ما آلمنى هو لهجة التخوين التى سادت بين الشعب، فقد انقسم الشعب إلى قسمين: واحد يقتنع بأن الثورة هى السبيل إلى التغيير ويجب الاستمرار إلى نهايتها لحين تحقيق مآربها، والآخر يرى حتمية التوقف وعدم العبث بأمن البلاد أكثر من ذلك والتقاط الأنفاس حتى نرى ثمار ما زرعناه فى الثورة رأى العين، وبدلا من أن يتحول الأمر إلى مناقشات جادة وعقلانية بين طرفين يؤمن كلاهما بحتمية التغيير وكراهية النظام السابق الفاسد، تحول إلى حرب صارخة صادمة سلاحها التخوين ورأس مالها دماء الشهداء، فمن لم يذهب إلى ميدان التحرير فهو خائن للوطن ارتضى الذل من آل مبارك، ومن ذهب إلى الميدان حتى ولو على سبيل "الفرجة" والتصوير مع الدبابات فهو مناضل ابن عم جيفارا.. كل هذا دون لمحة من تفكير، حتى كاتب هذه السطور عندما طالب الثوار بتفويض أحدهم للتفاوض مع الحكومة وعرض المطالب بدلا من المكوث فى الميدان إلى ما لانهاية (كان هذا قبل موقعة الجمل بدقائق وكان هذا رأيى قبلها) كان الرد الفورى هو مطالبة أحدهم لكل القراء بمقاطعة الكاتب دون حتى أن يناقش أو يعترض، وكان رد إحداهن هو اتهامى بالجهل وعدم متابعة الأمور والتفريط فى دم الشهداء، وأننى لو كنت متابعا لعرفت أنهم فوضوا وائل غنيم بالفعل، على الرغم من أنه كان معتقلا وقتها أساسا، وكان هذا بالنسبة لى مستغربا للغاية، فإذا كانت الثورة ستأتى بنظام لا يقبل اختلافا لرأى ولا مناقشة مع أحد، فما الجديد فى هذا النظام عن سابقه إذا استثنينا اختلاف الوجوه؟

ولهذا واعتمادا على أن كل من مع الثورة هو فلة شمعة منورة، وكل من يختلف مع أى جزء من جزئياتها هو قريب ونسيب عائلات إيلى كوهين، انتشر ركوب الموجة وانتشر المناضلون فى طول البلاد وعرضها، وصار التعامل مع الشخص بالقطعة وليس كمجمل أفكار، فإذا كان مع الثورة فهو رمز الوطنية الخالصة دون أخطاء، وإذا كان مختلفا ولو مع جزء صغير مع جزئيات الثورة كان شيطانا مريدا، ولهذا نجد التغاضى عن 9 مليون جنيه يتقاضاها محمود سعد _مع احترامى له_ من التليفزيون لمجرد أنه مع شباب الثورة رغم حساسيتنا الشديدة المعروفة من قبل لكل من يتعاطى هذه الأصفار (إذا قلت لى إن هذا الرقم غير حقيقى فما دليلك على أن 70 مليار دولار هو ثروة مبارك الحقيقية؟)، ونجد الهجوم على محمد صبحى _مع احترامى له_ لمجرد أنه أشاد بالثورة ولكنه طالب الجميع بإعطاء الفرصة للحكومة لتحقيق مطالب الثورة، وتحول فى لحظة إلى مشخصاتى ومنافق، رغم إشادتنا بفنه وثقافته وحبه لوطنه فى عشرات المواقف السابقة، حتى إننى أظن أن "فيفى عبده" لو خرجت تحيى شباب الثورة وتبارك ثورتهم لمدحها الجميع باعتبارها رمز الوفاء والأصالة ولقلنا "ياجماعة دى فنانة محترمة طول عمرها، وبتعمل مائدة رحمن كل سنة)!!

ونتيجة لهذا أيضا وركوبا للموجة صار الفنان المغمور الذى كنا لا نطيقه هو فنان الثورة، وصار الكاتب المائع الذى لا يمتلك موقفا سوى كتابة (الاستيتس) على الفيس بوك هو كاتب الثورة، وصار الشاعر الصاعد الذى لا يستطيع كتابة بيتين صحيحين بالفصحى والذى أعلن قبل ذلك سعادته بالحرية داخل بلده ودليله على ذلك قصائده التى كتبها بالاتفاق مع أمن الدولة، هو رمز لشباب الثورة وشاعر الثورة، (ألا يذكرك ذلك بقول أحمد عز عن جمال مبارك إنه مفجر ثورة تطوير الحزب؟) وصارت هناك قائمة سوداء للثورة وقائمة بيضاء للثورة، وقائمة بمبى للثورة، وصار هناك مجلس أمناء للثورة ومجلس قيادة للثورة، وفرحت برامج التوك شو بالرزق الذى أنزله الله عليهم من غير حول منهم ولا قوة فتسابقت البرامج لاستضافة عدد من الشباب يحكى كل منهم ذكرياته كواحد من المتحدثين عن الثورة، أو مراسل للثورة، دون أن يعى هؤلاء أن مصدر قوة هذه الثورة أنها بلا قائد وأنها مكونة من الشعب المصرى كله وسر قوتها أن تبقى على ما هى عليه دون مزايدات ولا بطولات زائفة، ورئيس التحرير الذى كان قبل ذلك على طائرة مبارك أصبح بين يوم وليلة عدوه والمتشفى فيه، والإعلامى الذى كان الحزب الوطنى قرة عينه ومهجة قلبه أصبح "يشوف العمى ولا يشوف شعاره".. وصار هناك استحواذ من الشباب على الثورة على أنها ثورتهم فقط وليست ثورة للشعب كله، باعتبار أنهم أول من نزلوا إلى الشوارع، وكأن الذين خرجوا فى ثورة 19 هم نزلاء دور المسنين، أو كأن الذى قاد ثورة يوليو هو لواء متقاعد على المعاش جمال عبد الناصر!

هناك من أصدقائى من شارك فى المظاهرات من بدايتها وسقطت عليه قنابل الغاز ومنهم من أصيب بالرصاص الحى ومنهم من أصيب إصابات مزمنة ورغم ذلك لم يكتب أحدهم عن معاناته وعن موقفه ولم يزايد على مافعله لوطنه ولم يذكر أنه ذهب للتحرير أساسا، بل إن بعض هؤلاء لم يَسْلموا من سباب مناضلى الكيبورد أحيانا وصمتوا، لأنهم أرادوا أن يكون موقفهم على أرض الواقع وليس عبر تكتكات الكيبورد، أراد كل منهم أن يقدم شيئا لوطنه دون جعجعة بلا طحين، وعلى الجانب الآخر، من أصدقائى أيضا من كان يسجل "حضور وانصراف" على الفيس بوك قائلا: أنا رايح التحرير.. أنا جاى من التحرير.. أنا دلوقتى داخل حمام التحرير.. وكأن الذين ناضلوا بحق فى السويس والمنصورة والاسكندرية أو حتى فى مناطق أخرى فى القاهرة أو غيرها هم أنصاف مناضلين وبقايا شرفاء.. وكأن الذين سهروا يحملون الرعب ويلتحفون بالفزع والجزع أمام بيوتهم لحمايتها ليسوا رجالا، وكأن الذين احتضنوا أولادهم ونساءهم فى أيام تعالت فيها اصوات الرصاص الحى لأول مرة فى الشارع المصرى حماية لهم ليسوا رجالا، وكأن لاعب الكرة الذى مات برصاص البلطجية وهو يحرس بكل رجولة وفداء بيوت جيرانه وأهله ليس شهيدا.. كل هؤلاء لم يذكروا فى سجلات الشرف فى الثورة لأنهم لم يذهبوا إلى التحرير!

أمر آخر آلمنى هو "كارت" دم الشهداء، فقد أصبح دم الشهداء هو رأس مال كل من يطالب، فإذا نصح أحدهم بالنظر إلى المستقبل والعمل بجد قوبل بهجوم حاد وكيف أنه نسى دم الشهداء، وإذا رأى أحدهم أية حسنة فى شخصية من النظام طارده دم الشهداء من كل متحدث، وكأن دم الشهداء أصبح هو الفزاعة التى يحملها كل متسلق للوصول إلى مآربه، ولهذا أصبح من الصعب أن تطالب أى محتج فى أى شركة بالصبر لأنه سيقول: "حرام عليك يا أخى.. نسيت دم الشهداء اللى ماتوا عشان حقوقنا؟" وهذا لأن كل محتج يحمل دم الشهداء فى إحدى يديه وفى الآخر يافطة "عايزين علاوة".. وكيف يمكن لواحد من الثوار أن ينصح المحتجين والمضربين بالصبر لعدم زعزعة استقرار البلد كما يحدث الآن رغم أن هذا الثائر لم يستمع لأحد من قبل؟ هوه حضرتك اللى بتحدد امتى نقف وامتى نقعد؟

أما عن لهجة الاستعلاء فى بعض الثوار الجدد فحدِّث ولا حرج، لا تتعجب عندما تجد فتاة فى عمر الزهور تتحدث بمنتهى الاستعلاء عن الفريق أحمد شفيق مثلا قائلة "هوه كلمنى وقلتله شوف.. مبارك يمشى الأول وبعدين نتكلم" وغيرها وغيرها، بعد أن شعر هؤلاء أن شرعية الثورة معهم وأن الشعب بجميع طوائفه معهم تعالت لهجة الاستعلاء، وشعروا أن من حقهم تحقير كل من لا يتوافق مع توجهاتهم، فإذا كان مبارك على حد قول جميع الثوار كان فى المكتب المكيف أثناء حرب أكتوبر، فأعتقد أن الفريق شفيق وقتها كان على طائرته يحارب على الجبهة وهو لم يقدم استمارة فساد مسبقة للحكم عليه، وإذا كانت لهجة الاحتقار والاستعلاء هى السائدة بين الثوار ضد معارضيهم، فلماذا يثور الشباب عندما يقول عنهم الفريق أحمد شفيق أنه يريد أن يُحضِر لهم "بونبونى" رغم تفسيره لهذه الكلمة باحترام فيما بعد؟ وما الفارق بين لهجتهم الاستعلائية وبين قول مبارك عن البرلمان الموازى للمعارضة "خليهم يتسلوا"؟ أهى ثورة تمشى على نفس نهج من سبقها؟

لست مع من نادى بالأسف للرئيس مبارك لأنه "بابا" المصريين، فهو فى نظرى رئيس حكم مصر، لا بد أن يتم التعامل معه فى هذا الإطار، إذا ثبت خطؤه لابد من عقابه وعدم التفريط فى دم الشهداء ولا حق المظلومين، ولابد من القضاء على كل رموز فساد نظامه واحدا واحدا، ولكن هذا لا يعنى أن أفنى عمرى فى هجائه وسبه، وأن أبقى مرابضا على ذكرى أرض الثورة لا أرى إلا ما حدث ولا أفكر إلا فى محيطها، متناسيا أن الثورة تستلزم العمل على استثمار نجاحها والعمل على إدارة عجلة التقدم مع عدم التفريط فى أى حق من حقوق الشعب وبالطبع فى دم الشهداء.. من أراد أن يعارض فأهلا وسهلا، ومن أراد أن يصرخ بحبه لمبارك فأهلا وسهلا.. أليست هذه هى الديمقراطية التى ينشدها الجميع؟ أم أن الديمقراطية لابد أن تكون متمثلة فقط فى الطرف الأقوى فى أى نزاع، منزوعة الأظافر فى الطرف الأضعف من أى حوار؟

ربما بعد كل هذا الكلام يتبادر إلى ذهنك بعض الأسئلة تجاه كاتب هذه السطور.. هل كان مع الثورة؟ هل ذهب إلى ميدان التحرير؟ هل أصيب؟ هل تبرع بالدم مثلا للمصابين؟ ماذا فعل للثورة ليتحدث عن ثوارها بهذه الطريقة؟ ولأننى أعلم علم اليقين أن إجابتى _للأسف_ ستغير رد فعلك فى التعامل معى رغم أن هذا خطأ شنيع، ولأننى مهذب بطبيعتى _أو هكذا أعتقد_ فسأكتفى بقولى "ملكش دعوة".. تاركا فرصة واحدة لكل من يسأل قبل أن يسب أو يعترض أو يسخر ليكتشف حقيقة نفسه، كل ما عليك عزيزى السائل المناضل أن تقف دقيقة أمام المرآة وأمام نفسك، تَطهَّر من كل مزايداتك ومصالحك، تخلَّص من كل عقد النقص والغلّ المغروسة داخلك، اعترف بزيف مواهبك وبالتسلق على أكتاف الشرفاء إن كنت فعلت ذلك.. واسأل نفسك سؤالا واحدا: هل قدمت فعلا شيئا للثورة؟