اخبار

الجمعة، ٢٦ نوفمبر ٢٠١٠

الطعمجى، والدستور.. وإبراهيم عيسى!


يدهشنى عم "أحمد الطعمجى" الذى يقبع محله على ناصية الشارع الذى أسكن فيه، فالرجل منذ أن أصبحت زبونه الدائم الذى يعزف كل يوم أمامه ملحمة الحاجة للفول والطعمية الخالدة لكل عازب، وهو يجيبنى دائما "اؤمر يادكتور مصطفى".. كنت أتعجب دائما من الثقة التى ينادينى بها عم "أحمد" الطيب، وأبحث فى نفسى عن أى علامة تقنع الآخرين بأن اسمى "مصطفى" أو أننى "دكتور" فلم أجد!

ربما لأننى الوحيد الذى يسبق طلبات الفول والطعمية بـ "لو سمحت" وسط أناس يسبقون طلباتهم بسيمفونيات صوتية احتجاجية لا تقدر عليها حنجرتى الضعيفة ولا أنفى المتواضع، ربما لأننى الوحيد الذى ما زال محتفظا بتسريحة الشعر "على جنب" وكأننى الوريث الوحيد للأخ "عماد حمدى" صاحب أشهر "نينا" فى التاريخ، مما يخدع عم "أحمد" ببعض الاحترام والأدب الزائف، ربما لأن عم "أحمد" يمر ببعض الأزمات الصحية التى تستلزم وجود طبيب على أن يكون اسمه "مصطفى" وقد توسم فى العبد لله أن يقوم بهذا الدور!

وأيا كان السبب،فالحق أقول إن عدوى الإصابة بـ "الدكترة" أمام عم "أحمد" قد انتابتنى لفترة، فصرت أتعمد الذوق المفتعل، والهدوء الممل، وأهرش خلف أذنى وكأننى أضبط "النظارة الوهمية"، وأسرح بنظرى فى الفضاء هائما مفكرا إذا سألنى إن كنت أريد الفول سادة أم "محوّج".. حتى قررت أن أصارح الرجل بسوء تخمينه وفساد ذكائه، انتظرت حتى صرنا وحيدين فى المطعم وقلت له: "على فكرة أنا مش دكتور ياعم أحمد".. كانت الصدمة شديدة على الرجل ولكننى لم أرحمه وتابعت بانتقام "وكمان اسمى مش مصطفى".. ولما سألنى مهزوما عن وظيفتى أخبرته بأننى كاتب صحفى.. لحظات وابتسم ونادى على صبيته جميعا ليزف إليهم البشرى "مش الدكتور مصطفى طلع صحفى ياعيال؟"!

- طب وانت بتكتب فى جورنال إيه بقى؟

- فى الدستور

- آآآه.. عارفها.. بتاعة إبراهيم عيسى اللى بيضحك علطول أبو شنب كبير ده.. الراجل ده بيسلخ الحكومة مش بيهمه حد.. لا فارق معاه ريس ولا ابن ريس.. راجل محترم بصحيح.. وبيقول للحمار انت حمار فى وشه!

كان تعريف الرجل لإبراهيم عيسى بسيطا مرحا، كدت أن أصحح له قوله بأن الدستور ليست "بتاعة" إبراهيم عيسى.. الدستور ليست لفرد.. الدستور لكتيبة كاملة من الصحفيين الأفذاذ الشرفاء الموهوبين.. الدستور لهؤلاء الذين يتحملون ظروفا مادية ومعنوية تتداعى أمامها الجبال بكل صلابة وإيمان.. ولكننى تراجعت.. تذكرت تلك الآلة المبهرة التى يقوم فيها كل جزء بدوره المرسوم، وكل ترس بدورته المستديمة، ولكنها مهما تعاظمت إمكانياتها فهى بحاجة دائما لمصدر طاقة يلهمها ويدفع الحركة فى أسلاكها، لتبهر الناظرين وتؤدى عملها على أكمل وجه، فلم أستطع أن ألوم عم أحمد عندما نسب الدستور إلى "إبراهيم عيسى"!

توالت الأيام وكان سؤال عم أحمد دائما "ازيك يادكتور مصطفى.. أخبار إبراهيم عيسى والدستور إيه؟".. كان سبيلى فى الصبر عليه هو إيمانى بأن هذه هى الأيام الأخيرة التى سأقضيها فى هذا الشارع متوجها إلى شقة الزوجية فى منطقة أخرى، ورغم أن صاحب محل الكهرباء بجوار شقتى الجديدة قال لى "اؤمر يا باشمهندس عادل" إلا أن هذا كان أرحم من تحية عم "أحمد" اليومية!

سألنى عم "أحمد" ذات يوم: أخبار إبراهيم عيسى يادكتور؟

- أقالوه ياعم أحمد.. رفدوه

- ومين ده اللى يقدر يرفد الراجل الكبَّرة ده؟

- السيد البدوى

كانت صدمة الرجل شديدة هذه المرة.. ولما تمالك نفسه قال فى ذهول: أنا قلت كده برضه.. محدش يقدر على إبراهيم عيسى ده إلا ولى من أولياء الله.. السيد البدوى بنفسه رفده؟؟ شيء لله ياسيد!

- ياعم أحمد ده رجل أعمال مش السيد البدوى بتاع طنطا.. سيبك م الحمص وخليك معايا

- بس برضه إبراهيم عيسى كان بيشتم التخين.. مش معقول واحد بس يقدر عليه

- ماهو كان معاه رضا إدوارد

- أيوة كده.. أنا قلت الكترة تغلب الشجاعة.. وبعدين إدوارد ده أسمع عنه.. بتاع بولاق.. راجل شرانى.. طب والجورنال عامل إيه دلوقتى يا دكتور مصطفى من غير أبو عيسى؟

- مايسواش بصلة دلوقتى ياعم أحمد.. مفيش جورنال من غير الصحفيين بتوع الدستور.. دول سر الخلطة.. زى خلطة الفول بتاعتك كده

- بس شوف يادكتور مصطفى.. أنا لو منك شوف الجورنال الجديد.. جايز يبقى حلو.. ويبقى أحلى كمان.. أنا مرة غبت عن المحل.. الواد ابنى عمل خلطة تانية للفول طلعت أحلى.. جرب كده وابقى قول لى

ظلت كلمات عم "أحمد" فى أذنى وأنا فى طريقى إلى شقتى الجديدة.. صحيح.. ليه لأ؟ الطريق فى المترو إلى شقتى الجديدة يحتاج إلى ساعة كاملة.. أشترى الدستور وأحكم.. وفى أسوأ الظروف سأحل الكلمات المتقاطعة والسودوكو.. توجهت إلى بائع الجرائد ووجدت الدستور بجوار روز اليوسف.. كان أشد ما يؤلمنى هو حيرتى بين شراء الدستور وروز اليوسف(!) أخذت الدستور وجلست فى المترو أتصفح الجريدة.. لا يوجد عنوان واحد يستحق القراءة.. لا يوجد خبر واحد يستحق إضاعة الوقت.. لا توجد صورة واحدة تستحق الإعجاب.. لا توجد قفشة واحدة تستحق الضحك.. لا يوجد جورنال يستحق الشراء.. ضاعت فلوسك يا دكتور "مصطفى"!

قلت فى سرى إن لم يكن للجورنال فائدة فعلى الأقل متع نفسك بالكلمات المتقاطعة والسودوكو.. أعتقد أن مثل هذه الأشياء لا تندرج تحت بند تغيير السياسة التحريرية(!).. وكانت المفاجأة أن الجورنال لا يحتوى على كلمات متقاطعة أو سودوكو أصلا.. كدت أجن.. إن "ميكى" تحتوى على سودوكو وكلمات متقاطعة.. أبوس إيديكم الجنيه هيروح عليا!

وهكذا ولأول مرة فرشت جورنال الدستور ليجلس عليه العمال فى شقتى الجديدة ولما عدت إلى عم "أحمد" فى آخر أيامى فى الشارع القديم وآخر زياراتى إليه نادانى من بعيد: - أخبار الدستور إيه يادكتور "مصطفى"؟

نكست رأسى وأجبته: البقاء لله ياعم "لطفى"!